فصل: بابٌ من الإكراهِ على الزِّنَا والقطعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابٌ من الإكراهِ على النِّكَاحِ والْخُلْعِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَلَوْ أَنَّ رَجِلًا أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَهْرُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا، وَالْمَرْأَةُ غَيْرُ مُكْرَهَةٍ، فَالْخُلْعُ، وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ طَلَاقٌ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ جُعْلٍ، فَكَذَلِكَ بِالْجُعْلِ، وَلِلزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهَا قَدْ الْتَزَمَتْ الْأَلْفَ طَائِعَةً بِإِزَاءِ مَا سَلَّمَ لَهَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَ النِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِمِلْكِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمَالِ أَصْلًا بَلْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الصِّيَانَةِ، وَالْمَضْمُونُ الْمَحَلُّ الْمَمْلُوكُ لَا الْمِلْكُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا جَازَ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَلَا عِوَضٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ، وَلِيُّ الْعَمْدِ عَلَى أَنْ يُصَالِحَ مِنْهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ إسْقَاطَ الْقَوَدِ بِالْعَفْوِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إسْقَاطَهُ بِالصُّلْحِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى الْأَلْفِ عَلَى الَّذِي كَانَ قِبَلَهُ الدَّمُ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الدَّمِ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مَا الْتَزَمَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَلْفِ، وَالْمُكْرِهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَهُوَ مِلْكُ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ، وَهَذَا مِلْكٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْعَفْوِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ شَرْعًا، وَبِهِ، فَارَقَ النَّفْسَ، فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْمَالِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ خَطَأً صِيَانَةً لَهَا عَنْ الْإِهْدَارِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَبِلَهُ الْعَبْدُ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، وَالْعَبْدُ غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَالْعِتْقُ جَائِزٌ عَلَى الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إسْقَاطِ الرِّقِّ بِالْعِتْقِ، وَالْعَبْدُ الْتَزَمَ الْمِائَةَ طَوْعًا، ثُمَّ يُتَخَيَّرُ مَوْلَى الْعَبْدِ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي أَكْرَهَهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَهُ فِي الْعَبْدِ بِالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ، وَمِلْكُهُ فِي الْعَبْدِ مِلْكُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُتْلِفِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ حِينَ ضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْعَبْدِ بِالْمُسَمَّى، وَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى أَخَذَ الْعَبْدَ بِالْمِائَةِ، وَرَجَعَ عَلَى الْمُكْرَهِ بِتِسْعِمِائَةٍ تَمَامَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْمُسَمَّى مِنْ الْمَالِيَّةِ أَتْلَفَهُ الْمُكْرِهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَقَدْ أَتْلَف عَلَيْهِ مِقْدَارَ الْمِائَةِ بِعِوَضٍ قُلْنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِوَضَ فِي ذِمَّةِ مُفْلِسِهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَلَا شَيْءَ لَهُ، فَهُوَ كَالتَّاوِي، فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ اخْتِيَارُهُ لِلْمُسَمَّى إبْرَاءً مِنْهُ لِلْمُكْرِهِ قُلْنَا فِي مِقْدَارِ الْمِائَةِ يُجْعَلُ هَكَذَا؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَأَمَّا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَحَقُّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُكْرِهِ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى الْعِتْقِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ قِيمَةَ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالِيَّتَهُ بِبَدَلٍ لَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ، وَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ الْعَبْدَ بِالْأَلْفَيْنِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ طَوْعًا، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُكْرِهِ قَامَ الْمُكْرِهُ مَقَامَ الْمَوْلَى فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْعَبْدِ بِالْمُسَمَّى عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْسَكَ أَلْفًا مِقْدَارَ مَا غَرِمَ، وَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَإِنْ اخْتَارَ إتْبَاعَ الْعَبْدِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِمَا صَنَعَ حِينَ اخْتَارَ إتْبَاعَ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ الْأَلْفَانِ نُجُومًا، فَحَلَّ نَجْمٌ مِنْهَا، فَطَلَبَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ بِذَلِكَ النَّجْمِ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، فَهَذَا مِنْهُ اخْتِيَارٌ لِإِتْبَاعِ الْعَبْدِ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهُ إيَّاهُ بِذَلِكَ النَّجْمِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِمَا سَبَقَ، فَيَكُونُ كَالتَّصْرِيحِ بِالرِّضَا، وَذَلِكَ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ.
وَلَوْ أُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، أَوْ حَبْسٍ حَتَّى تَقْبَلَ مِنْ زَوْجِهَا تَطْلِيقَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا، وَمَهْرُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ، فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْبَدَلِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَبِالْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ، أَوْ بِقَتْلٍ، وَلَكِنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَعْتَمِدُ وُجُودَ الْقَبُولِ لَا وُجُودَ الْمَقْبُولِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَجِبْ الْمَالُ، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ الْقَبُولُ، فَلِهَذَا كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا، ثُمَّ الْوَاقِعُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ يَكُونُ رَجْعِيًّا إذَا لَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ بِمُقَابَلَتِهِ، وَهُنَا لَا عِوَضَ عَلَيْهِ، فَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا شَرَطَتْ الْخِيَارَ لِنَفْسِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الطَّلَاقِ بِمَالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَسْقُطْ الْخِيَارُ وَعِنْدَهُمَا الطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْمَالُ لَازِمٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ هَزَلَتْ بِقَبُولِ الطَّلَاقِ بِمَالٍ، وَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ.
وَعِنْدَهُمَا الطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْمَالُ وَاجِبٌ، فَبِالْكُلِّ حَاجَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ، وَمَسْأَلَةِ الْخِيَارِ، وَالْهَزْلِ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ الْإِكْرَاهُ لَا يُعْدِمُ الِاخْتِيَارَ فِي السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، فَلِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ فِي السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ تَمَّ الْقَبُولُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلِانْعِدَامِ الرِّضَا لَا يَجِبُ الْمَالُ، فَكَأَنَّ الْمَالَ لَمْ يُذْكَرْ أَصْلًا، فَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ، فَلِانْعِدَامِ الِاخْتِيَارِ، وَالرِّضَا بِالسَّبَبِ، وَبِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ، وَالرِّضَا بِالْحُكْمِ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ، وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَوُجُوبُ الْمَالِ عَلَى وُجُودِ الِاخْتِيَارِ، وَالرِّضَا بِهِ، وَكَذَلِكَ الْهَزْلُ لَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ، وَالرِّضَا بِالسَّبَبِ، وَإِنَّمَا يَعْدَمُ الرِّضَا، وَالِاخْتِيَارَ بِالْحُكْمِ، فَتَوَقُّفُ الْحُكْمِ لِانْعِدَامِ الِاخْتِيَارِ فِي حَقِّهِ، وَصَحَّ الْتِزَامُ الْمَالِ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَلْزَمَهُ عِنْدَ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: الْإِكْرَاهُ يَعْدَمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، وَلَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ فِي السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ جَمِيعًا، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِانْعِدَامِ الرِّضَا بِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ، فَأَمَّا الْهَزْلُ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ، فَلَا يَعْدَمُ الرِّضَا بِالسَّبَبِ، وَالْحُكْمُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ السَّبَبِ، فَالرِّضَا بِالسَّبَبِ فِيهِمَا يَكُونُ رِضًا بِالْحُكْمِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَجِبُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ تَبَعًا لِلطَّلَاقِ فِي الْحُكْمِ، وَفِي الْإِكْرَاهِ انْعَدَمَ الرِّضَا بِالسَّبَبِ، فَلَا يَثْبُتُ مَا يَعْتَمِدُ ثُبُوتُهُ الرِّضَا، وَهُوَ الْمَالُ، وَيَثْبُتُ مِنْ الْمَالِ مَا لَا يَعْتَمِدُ ثُبُوتُهُ الرِّضَا، وَهُوَ الطَّلَاقُ، فَإِنْ قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ رَضِيتَ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ بِذَلِكَ الْمَالِ جَازَ، وَلَزِمَهَا الْمَالُ، وَتَكُونُ التَّطْلِيقَةُ بَائِنَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إجَازَتُهَا بَاطِلَةٌ، وَهِيَ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، فَقِيلَ قَوْلُهُ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَمَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ لِمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَقَعُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، وَلَهَا الْخِيَارُ فِي جَعْلِهَا بَائِنَةً وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ، فَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يَقَعُ أَصْلُ الطَّلَاقِ، وَيَبْقَى لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي الصِّفَةِ فَهُنَا أَيْضًا وَقَعَ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا، وَبَقِيَ لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي صِفَتِهِ، فَإِذَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ طَوْعًا صَارَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى لَهَا مَشِيئَةٌ بَعْدَ وُقُوعِ أَصْلِ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا، فَلَا رَأْيَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْتِزَامِ الْمَالِ لِتَغَيُّرِ صِفَةِ تِلْكَ التَّطْلِيقَةِ، وَمَنْ قَالَ إنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ، فَرْعًا؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، ثُمَّ قَالَ: جَعَلْتُهَا بَائِنَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَصِيرُ بَائِنًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَصِيرُ بَائِنًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَجْعَلَ الْوَاقِعَ بِصِفَةِ الرَّجْعِيَّةِ بَائِنًا، فَكَذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ ذَلِكَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ وِلَايَةٌ جَعَلَ التَّطْلِيقَةَ الرَّجْعِيَّةَ بَائِنَةً، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهَا ذَلِكَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ التَّطْلِيقَةِ خُلْعٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ بَائِنٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ وُجُوبِ الْمَالِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْخَلْعِ، وَالِانْتِزَاعِ فَفِي اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ، وَلِهَذَا لَوْ خَلَعَ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَالٍ، وَقَبِلَتْ كَانَ الْوَاقِعُ بَائِنًا بِخِلَافِ لَفْظِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إذَا أُكْرِهَ الْقَاتِلُ بِقَتْلٍ، أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ يُصَالِحَ الْوَلِيَّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا، فَصَالَحَهُ بَطَلَ الدَّمُ لِوُجُودِ الْقَبُولِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَيَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ.
وَلَوْ خَلَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَبِلَتْ، وَقَعَ الْخُلْعُ لِوُجُودِ الْقَبُولِ مِنْهَا، وَلَمْ يَجِبُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ لَا يُنَافِي التَّكَلُّمَ بِالْقَبُولِ، وَلَكِنْ يُنَافِي صِحَّةَ الْتِزَامِ الْمَالِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ مِنْهُ عِوَضًا عَنْ مَالٍ لَا يَكُونُ صَحِيحًا، فَعَنْ غَيْرِ مَالٍ أَوْلَى، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَمُ عَمْدٍ، فَصَالَحَهُ عَنْهُ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ عَلَى مَالٍ ضَمِنَهُ لَهُ الْغُلَامُ عَلَى إنْ عَفَا جَازَ الْعَفْوُ لِوُجُودِ الْقَبُولِ مِمَّنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ يُنَافِي الْتِزَامَ الْمَالِ بِجِهَةِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا، أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ الْعَبْدُ عَلَى أَنْ يَقْبَلَ الْعِتْقَ مِنْ مَوْلَاهُ بِمَالٍ قَلِيلٍ، أَوْ كَثِيرٍ عَتَقَ لِوُجُودِ الْقَبُولِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْعَبْدِ بِالْتِزَامِ الْمَالِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ فِي الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ، وَإِنَّمَا يَعْدَمُ الرِّضَا بِهِ، وَالْمَالُ لَا يَجِبُ بِدُونِ الرِّضَا بِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الصُّلْحِ مِنْ الْقَوَدِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ قِيمَةَ عَبْدِهِ إنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ قَتْلٍ، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِحَبْسٍ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِتْلَافَ إنَّمَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ الْإِلْجَاءِ التَّامِّ، وَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ دُونَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ.

.بابٌ من الإكراهِ على الزِّنَا والقطعِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا لَوْ أَنَّ سُلْطَانًا، أَوْ غَيْرَهُ أَكْرَهَ رَجُلًا حَتَّى زَنَى، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا، وَهُوَ قَوْلُهُمَا: وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ، وَلَا تَنْتَشِرُ آلَتُهُ إلَّا بِلَذَّةٍ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ، فَمَعَ الْخَوْفِ لَا يَحْصُلُ انْتِشَارُ الْآلَةِ، وَفَرَّقَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ قَالَ الْمَرْأَةُ فِي الزِّنَا مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَمَعَ الْخَوْفِ يَتَحَقَّقُ التَّمْكِينُ مِنْهَا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ، وَهِيَ نَائِمَةٌ، أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا لَا تَشْعُرُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ جَانِبِ الرَّجُلِ، وَفَرَّقَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا، وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ قَالَ: لَا قَوْدَ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ الْحُرْمَةُ لَا تَنْكَشِفُ بِالْإِكْرَاهِ، وَلَكِنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَبِسَبَبِ الْإِلْجَاءِ يَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلِهَذَا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِذَا صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ صَارَ الْمُكْرَهُ آلَةً، فَأَمَّا الزِّنَا، فَفِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُون الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لَلْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِآلَةِ الْغَيْرِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمُكْرَهِ، فَبَقِيَ الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ، فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْزَجِرٌ إلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ، وَخَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ بِهَذَا الْفِعْلِ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَانْتِشَارُ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِ الْخَوْفِ، فَقَدْ تَنْتَشِرُ الْآلَةُ طَبْعًا بِالْفُحُولَةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الرِّجَالِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ طَوْعًا.
(أَلَا تَرَى) أَنْ النَّائِمَ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ طَبْعًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا قَصْدٍ، ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ غَيْرَ السُّلْطَانِ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمُكْرَهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا، أَوْ غَيْرَهُ قِيلَ: هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ، فَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ مُطَاعًا فِي عَهْدِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِكْرَاهِ، فَأَجَابَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ فِي زَمَانِهِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ حَالُ النَّاسِ فِي عَهْدِهِمَا، وَظَهَرَ كُلُّ مُتَغَلِّبٍ فِي مَوْضِعٍ، فَأَجَابَا بِنَاءً عَلَى مَا عَايَنَا، وَقِيلَ بَلْ هُوَ اخْتِلَافُ- حُكْمٍ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ- هُوَ الْإِلْجَاءُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُكْرِهُ قَادِرًا عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ خَوْفَ التَّلَفِ لِلْمُكْرَهِ بِذَلِكَ يَحْصُلُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ السُّلْطَانَ لَوْ هَدَّدَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ لَا يَكُونُ مُكْرَهًا، وَخَوْفُ التَّلَفِ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ قُدْرَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ بَلْ خَوْفُ التَّلَفِ بِإِكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِإِكْرَاهِ السُّلْطَانِ، فَالسُّلْطَانُ ذُو أَنَاةٍ فِي الْأُمُورِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ، وَغَيْرُ السُّلْطَانِ ذُو عَجَلَةٍ فِي ذَلِكَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَفُوتُهُ ذَلِكَ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ سَاعَةً فَسَاعَةً.
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ الْإِلْجَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ بِإِكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِإِكْرَاهِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ السُّلْطَانِ عَنْ نَفْسِهِ بِالِالْتِجَاءِ إلَى مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ اللِّصِّ عَنْ نَفْسِهِ بِالِالْتِجَاءِ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، فَإِنْ اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ نَادِرٌ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ لَا عَلَى الْأَحْوَالِ، وَبِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ يُمْكِنُ دَفْعُ إكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ إكْرَاهِ السُّلْطَانِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ مَا يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلْحُكْمِ يُعْتَبَرُ فِيهِ السُّلْطَانُ كَتَغْيِيرِ الْفَرَائِضِ مِنْ الْأَرْبَعِ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ يُعْتَبَرُ فِيهِ السُّلْطَانُ، وَلَا يَقُومُ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَقَامِهِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْمُكْرَهَ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ لَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْحُدُودِ إذْ الْحَدُّ، وَالْمَهْرُ لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا بِسَبَبِ فِعْلٍ وَاحِدٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ سَقَطَ الْحَدُّ، وَجَبَ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ، أَوْ مَهْرٍ، فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ، وَجَبَ الْمَهْرُ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ، فَإِنَّهُ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ مُحْتَرَمٌ كَاحْتِرَامِ النُّفُوسِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ أَذِنَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ اسْتَكْرَهَهَا أَمَّا إذَا اسْتَكْرَهَهَا، فَغَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ عِوَضًا عَمَّا أُتْلِفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا مِنْهَا بِسُقُوطِ حَقِّهَا، وَأَمَّا إذَا أَذِنَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَلِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا شَرْعًا أَنْ تَأْذَنَ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ إذْنُهَا لَغْوًا لِكَوْنِهَا مَحْجُورَةً عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا بِمَنْزِلَةِ إذْنِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ فِي إتْلَافِ مَالِهِ، أَوْ هِيَ مُتَّهَمَةٌ فِي هَذَا الْإِذْنِ لِمَا لَهَا فِي هَذَا الْإِذْنِ مِنْ الْحَظِّ، فَجَعَلَ الشَّرْعُ إذْنَهَا غَيْرَ مُعْتَبَرٍ لِلتُّهْمَةِ، وَوُجُوبِ الضَّمَانِ لِصِيَانَةِ الْمَحَلِّ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ لَا تَنْعَدِمُ بِالْإِذْنِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَجَبَ الْمَهْرُ، وَلَوْ مَكَّنَتْ نَفْسَهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ حَتَّى وَطِئَهَا الزَّوْجُ، وَلَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا مَالًا وَجَبَ الْمَالُ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْوَجْهَيْنِ.
أَمَّا إذَا اسْتَكْرَهَهَا، فَإِنَّهُ ظَالِمٌ، وَحُرْمَةُ الظُّلْمِ حُرْمَةٌ بَاتَّةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إذْنَهَا لَغْوٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، ثُمَّ حُرْمَةُ الزِّنَا حُرْمَةٌ بَاتَّةٌ لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهَا، وَلَمْ يَحِلَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدْيَانِ بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، فَتِلْكَ الْحُرْمَةُ مُقَيَّدَةٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ لِوُجُودِ التَّنْصِيصِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الزِّنَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَبَذَلَ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوُقُوفِ عَلَى حَدِّ الدِّينِ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ مُجَاوَزَتِهِ، وَفِيمَا يُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، فَمَا لَا رُخْصَةَ فِيهِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الزِّنَا بِحَبْسٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الشُّبْهَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِلْجَاءِ، وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ سَوَاءٌ.
.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْطَعَنَّ يَدَ هَذَا الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ: قَدْ أَذِنْت لَك فِي الْقَطْعِ، فَاقْطَعْهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ لَا يَسَعُ الْمُكْرَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَظَالِمِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ أَنْ يَأْذَنَ فِي ذَلِكَ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ يَبْذُلُ طَرَفَهُ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَا يَسَعُهُ كَمَا لَوْ رَأَى مُضْطَرًّا، فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ لِيَدْفَعَهَا إلَيْهِ حَتَّى يَأْكُلَهَا، وَلَا يَسَعُهُ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَطْعِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَإِنْ قَطَعَهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، وَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ اقْطَعْ يَدِي، فَقَطَعَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا كَانَ الْقَاطِعُ مُكْرَهًا أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرَفِ لِصَاحِبِ الطَّرَفِ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ أَسْقَطَهُ بِالْعَفْوِ فِي الِانْتِهَاءِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّرَفَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ مِنْ وَجْهٍ، وَفِي الْأَمْوَالِ الْبَدَلُ مُفِيدٌ عَامِلٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَالْبَدَلُ الَّذِي هُوَ سَعَتُهُ عَامِلٌ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ حَتَّى إذَا قَالَ لَهُ: أَحْرِقْ ثَوْبِي هَذَا لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إنْ فَعَلَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّرَفِ الْبَدَلُ الْمُفِيدُ عَامِلٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَهُوَ إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ أَكَلَةٌ، فَأَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ، فَالْبَدَلُ الَّذِي هُوَ سَعَتُهُ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ فِيهِ أَيْضًا، فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاطِعِ، وَلَا عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ مُكْرَهًا أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْمُكْرِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْقَطْعِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الْإِلْجَاءِ يَلْغُو إذْنُهُ، وَفِعْلُ الْقَطْعِ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً فِي ذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَقْصُودُ اُقْتُلْنِي، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَقَتَلَهُ بِالسَّيْفِ، فَعَلَى الْآمِرِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ مُلْجَأٌ إلَى الْقَتْلِ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُلْجِئِ، وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا بِإِذْنِهِ، وَفِي هَذَا يَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ دُونَ الْقِصَاصِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَوْ رَدَّهُ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ الْمُكْرِهِ، فَإِنَّ زُفَرَ لَا يَرَى الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنَّهُ إذَا قَالَ: اُقْتُلْ أَبِي، أَوْ ابْنِي، فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ هُوَ الْوَارِثَ.
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ اُقْتُلْ ابْنِي كَقَوْلِ زُفَرَ، وَفِي قَوْلِهِ اُقْتُلْنِي كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِذْنَ فِي الِابْتِدَاءِ كَالْعَفْوِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَبَعْدَمَا جَرَحَهُ لَوْ عُفِيَ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَمَاتَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ فِي الِابْتِدَاءِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَقَّ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ لَهُ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ، فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَمَا فِي الطَّرَفِ: وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ بَدَلَ النَّفْسِ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ، وَالْحَقُّ عِنْدَ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ، فَإِذْنُهُ فِي الْقَتْلِ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ، فَكَانَ لَغْوًا، وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِخِلَافِ بَدَلِ الطَّرَفِ فَإِنَّ الْحَقَّ لَهُ بَعْدَ تَمَامِ الْفِعْلِ فَيُعْتَبَرُ إسْقَاطُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَفْوِ، فَإِنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، وَالْإِسْقَاطُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، وَقَبْلَ الْوُجُوبِ يَصِحُّ، فَأَمَّا الْإِذْنُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إسْقَاطًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، وَبِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ الْإِذْنُ لَاقَى حَقَّ الْغَيْرِ، فَلَا يَصِحُّ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ إذْنَهُ فِي الْقَتْلِ بِاعْتِبَارِ ابْتِدَائِهِ صَادَفَ حَقَّهُ، وَبِاعْتِبَارِ مَآلِهِ صَادَفَ حَقَّ الْوَارِثِ، فَلِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ يُمْكِنُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَلِاعْتِبَارِ الْمَالِ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْآذِنِ فِي قَتْلِ أَبِيهِ، أَوْ ابْنِهِ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ لَاقَى حَقَّ الْغَيْرِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ لَاقَى حَقَّهُ، فَيَصِيرُ الْمَالُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ.
.
وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ بِإِذْنِهِ، فَمَاتَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَاطِعِ، وَلَا عَلَى الْآمِرِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ صَارَ هَدَرًا، فَلَوْ سَرَى إلَى النَّفْسِ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ كَانَ قَتْلًا، فَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ بِهِ، وَإِنْ تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اُقْتُلْنِي، فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَصْنَعَ بِهِ شَيْئًا لَا يَخَافُ مِنْهُ تَلَفٌ مِنْ ضَرْبِ سَوْطٍ، أَوْ نَحْوِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ رَجَوْت أَنْ لَا يَأْثَمَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُلْحِقُ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ رَخَّصَ لَهُ الشَّرْعُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْغَيْرِ، فَيَتَنَاوَلُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَإِنْ أَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَمَاتَ مِنْهُ كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَكَأَنَّهُ، فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ، وَهُوَ يُوجِبُ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُولُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ طَوْعًا، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِهِ بِإِذْنِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَالَ رَجُلٍ، فَيَرْمِيَ بِهِ فِي مَهْلَكَةٍ، فَأَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ، فَفَعَلَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي الْإِتْلَافِ طَوْعًا، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَ صَاحِبَ الْمَالِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَيْضًا عَلَى أَنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَإِذْنُهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَغْوٌ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْفَاعِلِ إنْ عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ مُكْرَهٌ عَلَى الْإِذْنِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِلْجَاءِ يَصِيرُ كَالْآلَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْإِذْنِ طَوْعًا، أَوْ كَرْهًا، وَلَوْ كَانَ الْفَاعِلُ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ مَالًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، فَلَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ بِدُونِ الْإِلْجَاءِ، وَبِالْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ صَاحِبُهُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، فَحِينَئِذٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ إثْمٍ، وَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ صَارَ بَاذِلًا مَالَهُ بِالْإِذْنِ، وَالْمَالُ مُبْتَذَلٌ، وَإِنَّمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ إتْلَافِهِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ طَوْعًا كَانَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَالْعَبْدُ، وَالْأَمَةُ فِيمَا يَأْذَنُ فِيهِ مَوْلَاهُمَا فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةِ إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَغْرَمُ نَفْسَ الْمَمْلُوكِ إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى فِي قَتْلِهِ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ، وَالْمَآلِ، فَيُعْتَبَرُ إذْنُهُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ كَمَا يُعْتَبَرُ إذْنُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي إسْقَاطِهِ حَقِّهِ فِي بَدَلِهِ عَنْ الْقَاطِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.